ابتسمتُ وأنا أراها تحمل لوحتها الرائعة بيديها الصغيرتين، وقد سكبت الألوان عليها بجمال أخاذ، راحت الصغيرة -لامار- تشرح لي ما رسمته في تلك اللوحة وهي تبعد خصلات شعرها الشقراء الطويلة ذات اللفات العريضة عن لوحتِها وتلقي بها خلف كتفيها فلا تلبث أن تعود، إحتضنها بحنان وقتها، وطبعت قبلاتي على وجنتيها الورديَّتين وأنا أقول لها بسرور عظيم:
ـ أنت فنَّانة رائعة يا صغيرتي.
إرتسمت علامات الفرح على وجه تلميذتي صاحبة الاسم الإيطالي الجميل، وخفق قلبي بإكتشاف موهبة جديدة أضيفها إلى فريق الفنّ الخاص بمدرستي، وقلت لوالدتها عندما التقينا أخيرا:
ـ ستكون لامار رسّامة بارعة.
فإنتقع وجهها وأجابتني بإمتعاض:
ـ ستكون الدكتورة لامار، ولا مانع من أن تهوى الرسم وتمارسه في أوقات فراغها.
في الحقيقة لم أستغرب ما قالته والدة الصغيرة، وقد عاينت الكثير من هذه الإملاءات التي يفرضها الأهل على مستقبل أولادهم حماية لأعراف بالية تمجد بعض المهن وترفعها إلى مصاف النجوم دون غيرها، ولا تتعدى هذه المهن التي يجعلها الأهل مجالا محددا لأحلام أولادهم أصابع اليد الواحدة، وهم بالتالي يوجهون أولادهم نحوها دون تفكير برغبات إبنهم وميوله الحقيقة، وهذه آفة من أفات المجتمعات العربية في هذا الزمان، والذي لا نكاد نلمحه في كثير من البلاد المتقدمة التي تحترم المهن جميعا.
فالهواية موهبة وهِبة ربَّانية حباها الله للإنسان بكرمهِ ومَنِّهِ، والسعيد هو من إهتدى إليها وعرفها، والأسعد هو من تهيأت له السبل ليمارسها ويدرس تفاصيلها، ويتعرف على ما سبقه به غيره ممن إمتلك ذات الهواية، وأسعد السعداء من تعلم علومها وعمل بها و إتخذها مهنته، وعاش يطوِّر نفسه ويبدع في مجال هوايته وميوله ويعيش متعة العمل المحبب الرائعة.
أحد معارفي ويعمل طبيب أسنان كانت حالته المادية متوسطة، وكان في صغره يهوى فنون النجارة والحفر، وقد رأيت مجموعة من مقتنياته الشخصية التي قام بصنِعها في سنوات عمره المبكرة، وكان أقل ما يقال عنها أنها بديعة وتشير إلى نبوغه المبكر في هذه المهنة الجميلة، وقد إستطاعت ورشة والده أن تقدم له الآلات والعدَّة اللازمة ليصنع أبدع الأشياء، ولكنه في النهاية لم يستطع أن ينفلت من أعرافنا الفاسدة التي تقدر فقط أصحاب بعض المهن دون بعضها الأخر، ودخل كلية الطب وتخرج منها، وفتح عيادته ليتمنى أن يملأ السوس أفواه الناس جميعا ليأتيه رزقه، ولو أنَّه تبحَّر في مهنته وتعلَّمها طوال تلك السنوات التي قضاها في أروقة الجامعات لأتحفنا بما يتوارثه الأجيال من أثاث وروائع من الخشب وربما تفوق على نفسه فإبتكر أنواعا جديدة من الأثاث وأسَّس شركات تُعنى وتتجر به ومن المؤكد أن أحواله المادية وشهرته ستكون أفضل وأحسن.
وفتاة أخرى كانت قد درست الأدب الإنكليزي وجلست في منزلها تنتظر الوظيفة، ثم دخلت عالم النت فأحيَت المواقع النسائية هوايتها في الطبخ، وداعبت خيالها مجددا، فبدأت تخرج من مطبخ عائلتها العريق في هذا الفن ما لذ وطاب من الأطباق لتقوم بتصويرها ونشرها على الشبكة، فلاقت أطباقها أجمل وأحسن تشجيع كانت تحتاجه لتقوم بحجز مساحة لموقعها الخاص ثم تشتري كاميرا رقمية شديدة الدقة، وتبدأ بالتنقل عبر درجات سلم الإبداع والإمتاع، وهي تعد العدة الآن لنشر كتابها الأول، وقد كنت أقبل على الموقع كلما رغبت بطبق أسر به أفراد عائلتي، فلو كانت صديقتنا هذه قد درست فنون الطبخ والتزيين في الجامعات التي تقدم هذا الفن لإخترعت وأضافت وغيرت الكثير من فنون هذا العالم الجميل الممتع.
وأذكر رسَّامة ساعدتها أمها الروسية الأصل على دراسة ما تهوى رغم إعتراض الوالد الطبيب العربي، ولكنها أبدعت وإشتهرت بعد دراستها وباتت تدرِّس في جامعة عالمية خاصة، وأذكر أخيرا أن دار نشر أمريكية إستدعتها مع مجموعة من الرسامين العرب بعد رؤية مدونتها، وإستضافتهم هناك ليقوموا بإنجاز سلاسل قصصية للأطفال ستقوم بنشرها هناك، ومن المؤكد أنها لو درست الطب لكانت بين صفوف الأطباء العاديين .
فأين نحن من مواهبنا ومواهب أبنائنا وميولهم، ولم لا يعمل من يحب الرسم رساما، ومن يهوى الكتابة كاتبا، ومن يحب النجارة نجارا، ومن يعشق الخضرة مزارعا، ولم لا نجد من يأخذ بيد المخترعين والمبدعين وينفق عليهم لتنمو ثمار المواهب فيهم، ولم نترك تلك الأعراف البالية التي تمجد بعض المهن فقط تتحكم في مصيرنا.
وقد آن لأمة التميز أن تبحث عن مميزيها وفي كل المجالات لترفع بهم رأسها وتعلوا بإبداعاتهم هامتها وتنشر عطرها من جديد بين الأمم.
الكاتب: عبير النحاس.
المصدر: موقع رسالة المرأة.